• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

... وتمردت الألوان

رجاء محمد بيطار

... وتمردت الألوان
تثاقلت السماء تحمل قبتها اللازوردية، وتستلّ قنديلها المشعشع على ضفة من أرجوان، لتغيّب به المدى تحت أمواج الأفق، وتترك وراءها بقايا شعاع هارب، لا يلبث أن يلتحق بها بعد هنيهات، كما تلتحق صغار الأحياء بأقاتها وادعة حبيّة... وهبت نُسَيمة رقيقة، فيها من حياة النهار حفيف كئيب، ومن هدأة الليل سكون ووجوم. مسح صادق بكفه على جبهته التي تحدرت عليها قطرات من عرق بارد، ثم أكمل بيده إلى نظارته، فانتزعها برفق، ليمسحها بمنديل صغير، ثم يعيدها إلى مكانها، ينظر من خلالها إلى اللوحة المنتصبة أمامه، ثم إلى اللوحة الكبرى المنتشرة حوله، ثم يعود إلى نظارته مرة أخرى، فينتزعها ويمسحها من جديد، يعتصر عينيه المرهقتَين، ويضعها عليهما ثانية. على وجهه الشاحب كآبة وأسى، ثم عاد يرنو إلى لوحته، إلى ألوانه المبعثرة بين يديه، إلى الظلام الذي بدأ يكتنفه ويكتنف نفسه، إنه لم يرسم ما أراده، لم يعبر عمّا ابتغاه، لعله الضوء الخافت هو الذي أعجزه عن الرؤية الواضحة، بل إنه كذلك بلا ريب، غداً يرسم الشروق إذاً، فالنور عندها يكون متوهجاً، يستطيع أن يرى بشكل أوضح، غداً يرسم الشروق! وتناهى إلى سمعه نداء، إنها نجوى، لم يرد أن يجب، تمنى لو كان بإمكانه أن لا يجيب، ولكنه ما برح أن رد بصوت خافت حزين: -        ها أناذا يا نجوى، إنني هنا. أطلت من بعيد، لم يتبيّنها جيداً فاستدار بيأس، تقدمت نحوه تشق أشباح الأشجار، وما ان صارت قربه حتى اندفعت تقول لا هثة في عتاب: -        ماذا تفعل هنا يا صادق؟ أقلقتني عليك! نظر إلى الأفق الذي أمامه، إلى حيث كانت الشمس قبل لحظات ترسل آخر فيض من أشعتها الراحلة، وهمس: -        كنت أرسم. وغصّت بين شفتيها آهة، وفي عينيها دمعة وهي تسأل: -        وماذا رسمت؟ -        الغروب. لم تستطع أن تتمالك دموعها، ولكنها سارعت تكفكفها خشية أن يراها، ثم تنبهت في لوعة وألم، إلى أنه لن يراها بالتأكيد، فالمكان مظلم، وهو بالكاد يرى في النور، فما باله بالعتمة؟! واستطردت بلهجة حاولت أن تبدي فيها بعض التفاؤل: -        وأين هي اللوحة؟ أرني إياها! امتدت يده إلى المساحة البيضاء القائمة أمامه على الحامل، استلّها، مزّقها، ورمى بها بعيداً، ثم تمتم وهو يغتصب من فؤاده ابتسامة: -        إنها ليست بالمستوى المطلوب، غداً أرسم أفضل منها، وأريك إياها! دافعت تأثرها وهي توافقه قائلة: -        أجل، غداً إن شاء الله! لم يعلّق على عبارتها الأخيرة، بل قلب شفته في امتعاض، وربما في شك، ثم مضى أمامها، لم تفاجئها رده فعله، كانت تعرف فيه ذاك النكران، ولكنها لم تناقشه كما هي العادة، لم يكن الموقف مناسباً للنقاش، هتفت به وهي تلملم بقايا أدواته وتجمعها إلى الحامل ثم تحملها وتتبعه: -        رويدك يا صادق، انتظرني، لا تتركني وحدي! على أنه لم ينتظر، كان يدرك ما وراء كلامها، إنها لا تريد أن تجرح شعوره وتذكّره بأنه ربما تعثر، لأنه لم يكن يرى أمامه! تبعته على عجل، كان قد ابتعد، لم تستطع أن تدركه قبل أن يحدث ما كانت تخشاه، لقد تعثر بحجر ناتىء، وانكفأ على وجهه ساخطاً، وصلت إليه، أعانته على القيام وهي تخفف عنه، صابرة على سخطه، وسارت بجانبه قابضة على معصمه بيدها بإحكام، وممسكة أدواته باليد الأخرى، ناظرة أمامها تارة، وإلى وجهه المتوتر طوراً، وتوجّها نحو البيت. مرت ليلة قاسية، لم يذق فيها صادق طعم النوم، ولا فعلت نجوى، أما هو، فقد أمضى الشطر الأول من ليله قابعاً على مقعد في غرفة النوم، وقد دفن رأسه بين راحتيه، وغرق في التفكير، يرفع وجهه بين الفينة والفينة، ليطلق زفرة حرّى، ثم يطأطىء رأسه من جديد، لم يستجب لصوتها حين حثته على أداء الصلاة، ولا حين دعته إلى العشاء، ولا أذعن لتوسلاتها بأن يقوم ليرتاح وينام، كان كل ما أجابها به قوله في جمود: -        ارتاحي أنت فأنا مرتاح هكذا. ولما استأذنته في إطفاء النور، هب ملتاعاً وهو يصرخ بها: -        لماذا تطفئينه؟ هل تريدين أن تعجّلي عليّ بالظلام؟ ألا تكفي العتمة التي سأغرق فيها بقية عمري؟ ألا تكفي؟! بكت نجوى، لم تستطع أن تقاوم البكاء، أما هو، فابتلع دموعه بجهد جهيد، واندفع خارجاً نحو غرفة الجلوس، أضاء المصباح الكهربائي فيها، وأغلق الباب على نفسه. لحقت به، قرعت الباب بيدها المرتجفة، لم تلق جواباً، نادته عدة مرات، لم يجب، ولما يئست منه، عادت إلى غرفتها متباطئة حزينة، أرادت أن تستأنف البكاء، ولكن أمراً ما منعها؛ كانت قسماته المشرقة وعيناه المتألقتان في ذلك اليوم الذي رأته فيه أول مرة، ثم شحوبه ونحوله، نظراته الساهمة التي يكاد يخبو فيها الضياء والبريق اليوم، كانت لهجته الواثقة المفعمة بالحياة والتفاؤل، يوم رافقته لشراء ثوب الزفاف، وكان صوته الجاف، ونبرته القاسية، المتهاوية، المرتعشة في يأس اليوم، لماذا؟! لقد تبدّل صادق، لم يعد ذاك الرجل القوي الذي أحبته، أجل، إنه البلاء، إنه الواقع المرير الذي شاء الله أن يمتحنه ويمتحنها به، فكان هو دون مستوى الامتحان، ودون المسؤولية. لماذا يا صادق؟!. لماذا خيبت أملي أيها الزوج الحبيب؟! لم تكن مؤمناً يوماً، أجل، لا أنكر ذلك، ولكنك لم تكن كافراً، ولا كنت أنا، صحيح أن الإيمان الذي ترعرع في فؤادي منذ برهة غير قصيرة، لم يترعرع في فؤادك أنت، ولكنني طالما سمعت أن الشدائد محك الرجال، وكنت أطمح، بعدما فشلت في إقصائك عن عنادك وإهمالك لواجباتك نحو ربك ونفسك، في أن يقصيك الله عن ذلك، وأن يهديك سواء السبيل وكانت هذه الشدة، كانت قوية، وكنت أحسبك قوياً، ولكن، يبدو أنها ويا للأسف، كانت أقوى منك، لقد ابتلعتك في طياتها، أساغتك لقمة سهلة، خيّبت أملي يا صادق، لقد كانت قوتك شجرة شمّاء متعالية، ولكنها لم تستطع أن تصمد أمام العاصفة، لأنها لم تنحن، لم تخشعن لم تسجد لخالقها، ولم تستسلم لمشيئته، لم تطلب الصفح والغفران إن استسلامك الآن يا صادق أشبه بالتمرد، لأنه يأس قاتل، وتشاؤم ذريع، ولعن للواقع ونفور منه. وفكرت نجوى، فكرت طويلاً، كلا، هي لا يمكن تتخلى عن صادق، إنه زوجها، نفسها التي خلقها الله منها، ثم إنه ليس كافراً بل هو ضعيف، ليس منكراً لربه، بل هو جاهل، قد أظلم الجهل في نفسه وأغشى بصيرته، ولعلها تستطيع أن تنيرله شعاعاً ما، وليكن توفيقها بالله. وفي اليوم التالي ما كاد النور يبزغ، حتى تسلل صادق حاملاً أدوات رسمه إلى حيث نوى، إلى حضن الطبيعة لحقت به نجوى دون أن يشعر، لم ترد أن تمنعه ولا كانت تستطيع، وصل في أمان، راقبته عن بعد وهو يتهيأ، ثم يحاول أن يرسم، راقبت حركاته الحائرة المضطربة، يمزق اللوحة إثر اللوحة، يمسح نظارتيه مراراً، يفرك عينيه بأنامله، ثم يشرد، هيهات! إن النور قد بدأ يخبو يا صادق، لا تحاول عبثاً، إنك ترهق نفسك بغير طائل، لا تظنّن أن شروق الشمس على الكون سيعني شروق النور في عينيك، ما ذهب قد ذهب يا صادق ما ذوى قد ذوى، ولن يعود. وتساقط في النهاية، أطاح بالحامل واللوحة، كسر ريشته، بعثر الألوان، انتزع نظارته ورماها بعيداً، ثم تساقط جاثياً على ركبتيه، غمر وجهه بكفيه، واهتز جسده بعنف تحت وقع الانفعال، وأنقذه البكاء، بكى كطفل تحطمت أعز لعبة لديه، ولم يعد يتسطيع إصلاحها، بكى صادق وانتحب، وجاوبت صوته الأدوية الخاوية، وذهلت نجوى، أرادت أن تأتيه، أن تخفف عنه، ولكنها تراجعت مترددة، خشيت أن يصيبها من ثورته كلام وكلام، انسابت دموعها على خديها وهي تراقب انفعاله، وحسبت للحظة أنها تسمع همساً بين شهقاته، أجل، لقد كان يقول بصوت متقطع خافت، لم يلبث أن علا بعد قليل: -   رحماك يا رب! رحماك! لماذا فعلت بي هذا؟! لماذا وجت إليّ هذه الضربة؟! إنها ضربة قاصمة يا رب، أنا عاجز عن تحمّلها، عاجز تماماً، ولكن، لماذا عيناي بالذات يا رب، وهما سلاحي وحياتي؟!. وعَزَمت على الدنّو منه، تجرأت، دنت، وضعت يدها على كتفه وهي تناديه بهمس، ارتعد، أرخى كفيه عن وجهه، ورفع بصره الكليل غارقاً في العبرات وهو يتمتم: -        أنتِ؟! -   أجل أنا يا صادق، ومن سواي؟! من يداوي آلامك ويبلسم جراحك سواي؟ حدّثني يا صادق، حدّثني عن كل ما يضنيك، أنا زوجك بل نفسك، وما كان للمرء أن يقيم بينه وبين نفسه أي حجاب. وكان حديث، وكان اعتراف، ذرف بين يديها دموعاً ساخنة، حدّثها عن ضياعه، عن يأسه وقنوطه وكرهه للحياة، وصمت للحظات، خفض رأسه يلتقط أنفاسه، ثم عاد يرفعه ليهتف، ودموعه لا تنفك تغطي وجهه: -        أواه يا نجوى، كيف سأستطيع الحياة بلا بصر؟ كيف سيمكنني الاستمرار؟ كيف؟ وانتفض فجأة، صرخ ثائراً وهو يشير إلى أدواته المحطمة بإحدى يديه، ويضغط صدغيه باليد الأخرى: -   كيف سأرسم يا نجوى؟ الرسم هو حياتي التي أعيشها، وهوائي الذي أتنفسه، الرسم هو دمي الذي يجري في عروقي، الألوان تتطاير من مخيلتي يا نجوى، لا أستطيع لها حصراً، والظلمة تكتسح ألواني، تقتلها، تدمرهان وتدمرني يا نجوى، أجل إنها تدمرني! وعاد يجهش بالبكاء، لم تتكلم نجوى، لم تعلّق، بل غالبت تأثرها هنيهة، وانتظرت حتى هدأ شيئاً ما، وهدأت هي، ثم همست تخاطبه بهدوء: -        هل قلت كل ما تريده يا صادق؟ هل ما زال لديك ما تحب قوله؟ كبت زفراته المتصاعدة بعسر، ثم أطلق نَفَساً طويلاً وهو يجيب: -        لست أدري! إنني حقاً لست أدري! على أن نجوى لم تيأس، بل عادت تقول بحنان: -        ولكن أنا أدري يا صادق، أنا أدري، فدعني أحدثك بما لدي. التفت إليها مستطلعاً بغير تشوق، بينما تابعت هي تحدثه، حدثته عن الحياة وقيمتها، عن الإنسان، عن علاقته بالحياة، حبه لها، حرصه عليها، ثم عجزه عن التحكم بكل مرافقهان عن واجبه في الخضوع لأمر الله، والنزول على حكمه، دون نكران لنعمه المتجلية في كل شيءن ثم أضافت تقول متأثرة: -   عد إلى نفسك يا صادق، تأمل في ما يحيط بك من نعم الله وخيراته، أرايت كيف تملّكك اليأس أمام أول حرمان لك من نعمة كبرى، لم تكن تشعر بقيمتها، ولا بشدة حاجتك إليها، إلاّ حين شعرت بأنك مهدد بفقدها؟! أجل، إنها صفة الإنسان: ينسى فضل الله وكرمه، حتى إذا ما ابتلاه الله، أصابه القنوط وظنّ أن الحياة قد انتهت! ذاك هو الإنسان يا صادق؛ "إذا مسه الخير منوعاً، وإذا مسه الشر جزوعاً". ولان صادق، وجد في ما قالته حقاً لا مجال لنكرانه، فأطرق مفكراً وهو يمسح دمعه، ويتخذ له مجلساً على صخرة محاذية، وجعل يستمع إليها، تصاغرت نفسه وتضاءل عناده وهو يصغي، بلهفة ما كان له أن يتحكم بها، وغاص صوتها في أعماقه، وهي تذكّره بضعف الإنسان، كل إنسان، تجاه ما يجرّه على نفسه، أما يصيبه القدر به، استمر يستمع، واستمرت هي تتحدث، عن الذنوب والمعاصي، عن ذنوبه هو ومعاصيه، عن بصره الذي لم يصنه يوماً ولا حافظ عليه، عن نظراته التي طالما وزعها هنا وهناك، يلتقط نظرةً محرمة، أو يستجيب للذات نظرةٍ محرمة، وكانت هي تلحظ ذلك فتتجاهل، بعد أن لم تكن في أيام ضلالها لتجد بأساً كبيراً في الأمر، وإن كانت تنزعج منه غيرة لنفسها لا لدينها وأعادته الذكرى إلى ماضيه، فتململ الغرور في أعماقه وكادت تأخذه العزة بالاثم، فقال معانداً: -   وما تعني النظرة يا نجوى؟ إنها لا تجر بأساً ولا تدفع إلى أذى، إنها مجرد نظرة لا أكثر ولا أقل، وما أكثر من ينظر ويحدّق، فهل الجميع سيصابون بمثل ما أصابني؟ -   أما أنها لا تجر بأساً ولا أذى، فأنت تعلم أنها كثيراً ما تفعل، وأما أن يصاب جميع من يرتكب ذلك بمثل مصابك، فهذا ليس بضروري، ولكن، لعل الله قد أصابك أنت بالذات، ليرحمك وينقذك مما كنت تتخبط فيه من ضلال. فهب صادق واقفاً بغضب وهو يقول: -        وما أدراك أنني كنت أتخبط في الضلال؟ ثم كيف تعتبرين ما أنا فيه رحمة؟ إنك مجنونة بلا ريب. تحمّلت إهانته وهي تتابع واثقة: -   إن رحمة الله يا صادق، لا تتجلى دائماً في ما يريح الإنسان أو يسرّه، بل هي كثيراً ما تتجسد في بلاءٍ ما أو خطب، إن البلاء ينبّه الإنسان إلى واقعه، يجره إلى عجزه، يجعله يعترف بضعفه. فأشاح عنها متألماً وهو يقول: -        أتعيّرينني بعجزي يا نجوى؟! أتعيّرينني بما كنت أقوله في لحظة ضعف؟! عادت تواجهه وهي تهتف مستنكرة: -   كلا يا صادق، كلا! وما كان لي أن أفعل، إنني أنبّهك فقط، وأشهدك على حديثى بكلامك أنت نفسك، بل كلام أي إنسان في مثل وضعك، ولست أول ولا آخر من أصيب ببلاء أجل يا صادق، إن من واجب الإنسان أن يرى في المصيبة رحمة، وفي البلاء عبرة وتذكرة، لأنه يوقظه من الغفلة وينبهه إلى الخطيئة والذنب. ثم ساد صمت طويل، قطعة صادق في النهاية قائلاً بلهجة منكسرة: -        لعلك محقة في ما تقولين، لعل هذه هذ الحقيقة! ووجم للحظة، ليعود فيضيف متحمساً إلى حد ما: -   هل ترين يا نجوى، أن هذه النظرة إلى الحياة تجعل الإنسان يحبها أكثر، ويسعى لجعل كل خطب فيها باعثاً له إلى زيادة التقوى والخشية من الله؟ أذلك ما تقصدين؟ غمرها سرور طاغ، إنه يستجيب لكلمات الحق، فهمست موافقةً: -   بلى يا صادق، بلى، فبدل أن ينظر الإنسان إلى الخطوب كما ينظر إلى الوحش المرعب، يخافه ويذهله اقترابه، فهو يراها، ويرى الحياة كلها، بحلوها ومرها، بمنظار حبه لله، وحبه لطاعته وعبادته وما أروع قول الصحابي الجليل، أبي ذر الغفاري (رض) حين سُئل عن أحب الأمور إلى نفسه، فأجاب: "أحبّ الجوع، وأحبّ المرض، وأحبّ الموت"، ولما اسْتُفهم عن سبب حبه لتلك الخطوب عاد يجيب: "أحبّ الجوع لأني إذا جعت رق قلبي، وأحبّ المرض لأني إذا مرضت خفّ ذنبي، وأحبّ الموت لأني إذا مت لقيت ربي!". وهتف صادق بنبرة شبه حالمة: -   رباه! ما أعذب تلك النفس، وما أطهرها! إنه حقاً لإيمان يسمو بالروح إلى العُلى! نجوى، إذاً، لعل من واجبي الان أن أشكر الله، أن أحمده على هذه النعمة! أليس كذلك؟! فأجابت مبتسمة: -   أجل يا زوجي العزيز، أجل، إنما البلاء محنة زائلة، أو عقاب على جريرة، فأمّا المحن فتُدْفع بالدعاء، وأما العقاب فبالاستغفار. وأشرقت الشمس، وأشرق الهدى في نفس صادق، تلألأ نوراً وضاءً يضحملّ أمامه كل نور ومضيَا، سارا على دربهما ثابتي الخطى، لم تمسك بيده، كانت قدمه ثابتة، وقلبه كذلك ثابت راسخ. مضيا ومضت بهما أيام وشهور، وانتظرا معاً قضاء الله، بالخضوع والخشوع الذي انتظرا به ميلاد طفلهما الأول، ولكن الأيام طالت، والشهور تكاثرت وفاضت، ولم يحدث المحذور، توقف بصر صادق عند حد واحد، لا يزيد عنه ولا ينقص، وانبعث الأمل من جديد، عادا إلى الطبيب، وكان فحص طبي دقيق، همس بعده الطبيب بلهجة يائسة: -        أنا آسف يا أستاذ صادق، ولن نظرك بحالة جد سيئة، وأعتقد أنه لا بد من إجراء العملية. لم يصدم صادق، ولا نطقت نجوى بحرف، بل تلاقت نظرتها المطمئنة، بنظرته الخاشعة المتضعة على طفلهما الصغير الذي ضمته يداها فاستسلم لنوم هادىء، وأجاب صادق بإيمان: -        فليكن يا دكتور، والاتكال على الله. أجريت العملية بعد أيام، دخلها صادق صابراً محتسباً، ترافقه كلمات زوجته المواسية وأغاريد طفله، وترفقه ثقة برحمة الله، وعزم على تحمّل النتيجة

ارسال التعليق

Top